الخميس، 31 مارس 2011

الأدب السوداني بين لغتين: عن القاص (ديفيد لو كودو) والشاعر (أكول ميان) وآخرين

الصادق الرضي 

الشاعر أكول ميان

كنت بلندن، صيف 2008م بدعوة من مركز ترجمة الشعر للمشاركة في ورش عمل لترجمة بعض أعمالي الشعرية إلى الإنجليزية بجانب الناقد والأكاديمي المعروف د.صبري حافظ والشاعرة والمترجمة البريطانية سارة ماغوير، رحلتي إلى بريطانيا في ذلك الوقت أعقبت مشاركتي في الملتقى الثاني للكتاب السودانيين الذي نظمه المجلس الثقافي البريطاني في الخرطوم في الفترة ما بين (18-20 فبراير) من ذات العام؛ يتصل بي، ذات مساء الشاعر والمترجم المعروف (سيد أحمد بلال) الذي يعمل ويقيم بمدينة لندن، ليخطرني بأنه قد فرغ من ترجمة نص (أنت وشحاذ أعمى وشيء للشرب) للكاتب (د. ديفيد لوكودو) وقصيدة (قلب وحيد) للشاعر (أكول ميان) من الإنجليزية للعربية ويطلب مني أن أراجع الإيميل، (سيد أحمد بلال) أنجز الترجمات بمستوى رفيع، لم ينقطع إتصاله طيلة فترة عمله بالكاتب والشاعر للتأكد من معنى معين أو التحقق من تعبير ما، وبعد أن فرغ من عمله، استأذن أصحاب الأعمال في مسألة النشر وتحصل على الموافقة، وكان اتفاقي الأدبي معه، على أن تنشر الأعمال المترجمة بمجلة سودانيزإنك الإلكترونية التي أتشرف بإدراة تحريرها؛ راجعت الإيميل، وبعد يومين، نشرت القصة القصيرة  أنت وشحاذ أعمى وشيء للشرب والقصيدة قلب وحيد بالمجلة في باب نصوص.
بعيدان عن بعضنا دائماً:
(بشرتَكَ لا تتحمل حرارة الخرطوم، لأنك عائد من الجنوب بطقسه البارد نسبيّاً. تجفِّف العَرَقْ للحظة عن جبهتك بمنديل، وأنت تفكِّر في ما إذا كان بإمكانك الحصول على مشروب بارد أو ماء، إذ ربما يكون هناك متجر أو مطعم فاتح. لا تتصوَّر أن يكونوا معتوهين لدرجة أن يقطعوا إمدادات المياه. لماذا يجبرون الجميع على الصيام حتى لو كانوا من غير المعتنقين لهذا الدين. لماذا يُجْبَر الشخص العادي على كل شيء. تقول محدِّثاً نفسك بتعجّب "يا له من بلد!" تهزُّ رأسك باستنكار. تردِّد بسخرية مع نفسك "بلادي" في صوتك مسحة عار لكن دون أدنى كبرياء. وفجأة تود لو أنّك  كنت ولدت في بلد مختلف، أو تنتمي لعالم مختلف تماماً. ربما ستكون الأشياء فيه مختلفة؛ كثيراً ما كنت تفكِّر متأملاً ربما كان في جنوب أفريقيا، في تلك الأيام المظلمة لنظام الفصل العنصري، ثمة سود وملوَّنُون ودُّوا لو أنهم كانوا بيض البشرة، لكنك لا تودّ أن تكون مثلهم، أولئك الشماليّين. تودُّ فقط لو أنّك كنت تنتمي إلى مكان آخر. لقد طرحتَ ذات مرّة تساؤلا حول وجود الله والخلق ونشوء الجنس البشري، وسبب اختلاف لون البشرة، ووجود أجناس أو جنسيات أو أديان مختلفة. إن تغيير جنسيتك ليس أمراً كافيا،ً وهو ليس كالانتماء لمكان آخر. لقد اقتنعتَ بأن ذلك التنبيه، ذلك الزيف، سيظل دائماً موجوداً هناك، كحالة شخص ما من أصل أفريقي يقيم في انجلترا ويزعم أنه إنجليزي، سواء ولد في انجلترا أم لم يولد فيها.)، هكذا يبدأ نص (أنت وشحاذ أعمى وشيء للشرب) لـ ديفيد لوكودو، في نسخته المترجمة إلى العربية، ود. ديفيد لوكودو من مواليد جوبا عام 1974م. درس الطب في جامعة ماكرري بيوغندا. أمضى اثني عشر عاما في يوغندا وثلاثة أعوام في كينيا. يعمل الآن طبيبا محترفا بجنوب السودان. حصل على جائزة في مسابقة المجلس الثقافي البريطاني بالخرطوم للقصة القصيرة المكتوبة باللغة الإنجليزية عام 1993م.
أما أكول ميان  فهو من مواليد ابيي سنة 1974 درس المرحلة الثانوية بالخرطوم، كتب القصة القصيرة باللغة العربية وله قصائد بالعامية، عمل في تسعينيات القرن المنصرم بمركز الدراسات النوبية ومركز الدراسات السودانية في القاهرة قبل أن يتحول للكتابة الشعر باللغة الإنجليزية حيث صدر له في نيروبي كتاب (سوف تشرق الشمس- (The Sun Will Be Rrising) )، وكتاب (القطار الأخير- (The Last Train)).
قصيدته القصيرة (قلب وحيد) في ترجمتها العربية: (بعيدان عن بعضنا دائماً/ كلَّما تغادر/ تترك قلبي المسكين وحيداً./ سوداء وذكيّة/ طويلة وجميلة،/ تبرق أسنانها البيضاء في عتمة الليل./ شديدة الحياء يحفُّها الاحترام/ لكن شفتيها الرقيقتين/ تجعلانني أشعر بالارتياح/ كلّما تمنحني قبلة بهما./ دائماً ما تغادر/ وتترك قلبي المسكين وحيداً/ وتأخذ معها/ شفتيها الرقيقتين وجمالها.)
بين الخرطوم وجوبا:
شخصي والشاعر والمترجم سيد أحمد بلال والشاعر أكول ميان والكاتب ديفيد لو كودو كنا معا لثلاث ليال ونهارات متصلات، بجانب ليلى أبو العلا ود.أبكر آدم إسماعيل، ود. هاشم ميرغني وجون أورييم وميسون النجومي مشاركين في الملتقى التحاوري الثاني بين كتاب ومبدعين من الداخل ومن المهاجر، الملتقى انعقد حينها على خلفية الملتفى الأول الذي شهده (جبل البركل) بمشاركة من شخصي أيضا و د. تعبان لو لوينق وعبدالقادر محمد إبراهيم وجونثان ميان ونجلاء عثمان التوم وفيكتور لوقالا وستيلا قايتانو، والذي كان مؤسسا نحو كسر حاجز اللغتين العربية والإنجليزية في التناول الأدبي السوداني وربط الكتاب داخل الوطن على الصغيد الجغرافي.
كان من المقرر أن تشهد مدينة (جوبا) فعاليات الملتقى الثاني- حسب توصيات الملتقى الأول، على أن تشهد مدينة (الخرطوم) الملتقى الثالث، كل ذلك ضمن مشروع كنت قد قدمته مكتوبا لمؤتمر (الترجمة من الإنجليزية إلى العربية ومن العربية إلى الإنجليزية) على هامش معرض لندن الدولي للكتاب في مارس من العام 2006م، بتشجيع ودعم من المجلس الثقافي البريطاني بالخرطوم، إثر مناقشات بيني وينن ديفيد مدير المجلس السابق عقب عودتي من (جولة شعراء العالم ببريطانيا) الأولى عام 2005م؛ ديفيد كان قلقا خلال الإجتماعات التي سبقت الملتقى الثاني، بخصوص إقامته بمدينة جوبا لأسباب فنية و(لوجستية) كثيرة، خصوصا وأن الملتقى الثاني وجهت فيه الدعوات لكتاب سودانيين يكتبون بالعربية والإنجليزية يقيمون بمهاجر مختلفة بجانب كتاب الداخل، حسمت- الأسباب- الأمر لصالح إقامته في الخرطوم على أن ينعقد الملتقى الثالث هناك.
أقمنا جميعا بفندق (الساحة) بالخرطوم، مما أتاح لنا فرصا كبيرة للتعارف الشخصي والتعرف على التجارب والخبرات المختلفة في الكتابة والنشر، وتداول وتدوير القضايا والهموم، لم نكن وحدنا كانت هناك (منى الحسيني) من مؤسسة المورد العربي، والتي شاركت معنا في أعمال الملتقى بإسهامات ثرة ومقدرة في مجال (الإدارة الثقافية) بجانب تقديمها لتجربة (المورد) تأسيسها وأهدافها ووسائل عملها وطموحاتها والمشاكل التي تواجهها، كنا نلتقي بعد فراغنا من برنامج العمل بباحة الفندق وننخرط في المناقشات، قبل برامج الفترة المسائية وبعدها، وفي الصباحات الباكرة قبل أن نغادر الفندق لتقديم الأوراق ومناقشتها، كانت ترجمة النصوص المشار إليها في مستهل هذه الكلمة بعض ثمارها.
أمسيات أدبية نادرة:
حين كنا في (جبل البركل) في فبراير 2007م، ايام الملتقى الأول، نظمنا قراءات أدبية باللغتين العربية والإنجليزية، طيلة الأمسيات التي أمضيناها هناك، كان يوم العمل يبدأ باكرا حيث ننخرط في مناقشة الأوراق وتداولها وفق البرنامج المخطط للملتقى، الشاعرة نجلاء عثمان التوم إلتحقت بنا في اليوم الثاني، كانت عائدة للتو من القاهرة حيث أشرفت على اللمسات الأخيرة لطباعة ونشر كتابها الشعري الأول، التحقت بنا وصحبتها بعض نسخ من الكتاب ساخنة، وتلك أمسية دشَّنها فيها الكتاب، على ضوء الشموع والفوانيس، بمبادرة أخاذة من الكاتب الكبير تعبان لو ليونق، قرأ في تلك الامسيات عبدالقادر محمد إبراهيم نصوصا ترجمها للكاتب جونثان ميان، وقرأ بالإنجليزية فيكتور لوقالا ترجمة قصيدتي (قصيدة النيل قراءة الشمس) بصوته، وقرأت لنا سيتلا قايتانو من كتابها (زهور ذابلة)، بيد أننا كنا نتبادل الأدوار ككتاب وجمهور، حيث كان الملتقى مغلقا علينا ولم يك الحضور مفتوحا، الأمر الذي اختلف بشأن القراءات في الملتقى الثاني، كانت قراءات أدبية باللغتين العربية والإنجليزية مفتوحة على الجمهور، الشاعر أكول ميان كان بازخا ومقتدرا وهو يصدح بقصائده الإنجليزية لجمهور واسع احتل حديقة المجلس البريطاني بالخرطوم، بجانب حضور الشاعر سيد أحمد بلال على المنصة قرأت ليلى أبو العلا عملا قصصيا جديدا شدَّ الحاضرين، وقرأ ديفيد لو كودو نصه (أنت وشحاذ أعمى وشيء للشرب) باللغة الإنجليزية والذي كان صاعقا ومذهلا، وأثار مناقشات وحوارات كثيرة بين الحضور والكاتب، هنا دارت المناقشات الأولية بيني وبين سيد أحمد بلال الذي أسرَّ لي وقتها بنيته المحققة لترجمته إلى العربية بجانب قصيدة أكول ميان التي صفق لها الحضور كثيرا في ذلك المساء.
أيضا كان جون أورييم مدهشا وهو يقرأ في اليوم التالي فصلا من رواية، قصصا قصيرة، وقصائد، من كتبه المطبوعة ومخطوطاته، شاركه ذات التعدد الإبداعي د.أبكر آدم إسماعيل الذي كشف ليلتها عن مقدراته في الأداء الشعري بجانب قراءاته من بعض أعماله الروائية والقصصية، ميسون النجومي- أصغر المشاركين سننا- قدمت قراءات جريئة بمغامراتها الفنية وهي تكتب بالإنجليزية والعربية جنبا إلى جنب، واستمع الحضور كذلك لقصائد د.هاشم ميرغني، الذي طالما عرفوه ناقدا وأكاديميا مقتدرا؛ تلك كانت سانحة جيدة لتقديم أمسيات أدبية بكل هذا التنوع على مستوى الأجناس الإبداعية وعلى مستوى لغة الكتابة وطرائق الأداء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق