الأحد، 17 أبريل 2011

ضوء يقترب ويبتعد: مجدي النور مقاربة الذكرى*

المبدع الراحل مجدي النور
الذي يعرف:
الوجه الذي أطل من خلف الملاءة، الوجه الأسمر والابتسامة الودود، والضحكة ذات الترحاب، في ذلك الليل الشتائي البعيد من العام 1987م، في تلك الغرفة الطينية الدافئة الكائنة بأمبدة شمال، بمنزل الصديق عبدالحفيظ على الله.. ذلك الوجه الذي صاحبني عمرا طويلا من المودة والأخوة الصادقة من السفر والجوع والسهر، من الاختلاف والائتلاف في المعرفة والجمال، في الكتابة والحياة، يطل الآن وكأنه يودِّع من نافذة ما، تطل مشاوير الصحبة في الأزقة الملتوية المعتمة، وفي الصالات المضاءة أيضا في ليالي ونهارات القلق والبحث عن مفاتيح النصوص- بكل حمولاتها الملتبسة، وتفرغ سلة الأسئلة من علامات الاستفهام والتعجب في الطريق إلى منتهى التوحُّد بالسيرة والسريرة.
ومجدي النور (ود) قسم الدراما قصر الشباب والأطفال، أدهشني تلك الليلة، الليلة الأولى التي اجتمعنا فيها في تلك الغرفة، وكنت – بالكاد- قد تعرفت على حافظ خير، المسكون بالشعر والصحبة، بالدراما وبقسم الدراما.. التقيت بـحافظ في اتحاد الكتاب السودانيين لأول مرة، وعرَّفني بأصدقائه في ذات الليلة التي التقيت فيها بمجدي وعبد الحفيظ وتوالت الخيوط ـ إثر ذلك ـ التي ربطت بيننا وآخرين لا تسع الصحائف ذكرهم ولا يحيط به الحبر، وكان مجدي يقرأ لنا بعضاً من شعره في تلك الليلة وكنا نضحك من شعر عبدالحفيظ على الله وهو لا يبالي مستغرقاً في قراءة (كراريس عدداً).
رافقت نموَّه على خشبة المسرح، في عروض فرقة نادي قسم الدراما قصر الشباب والأطفال، وسيف الإسلام حاج حمد وسيد عبدالله صوصل يخرجان بالمسرح الى حدائق الشعب (مسرح الشارع ومسرح الشخص الواحد)، ونزار أحمد إدريس يتجلى في عروض (الارتجال) صحبة محمود عبداللطيف (كابو) ويطلق على مجدي ضاحكا لقب (مجدي النور النجار)، قسم الإله حمدنا الله يطلق عقيرته بالغناء مؤديا (هوي يا جاهلة وطيبك عبق) بطريقة درامية خاصة. كانت تلك أيام الاكتشاف الأولى، وحافظ خير يكتب لصحيفة (السياسة) عن عرض (أربع قصائد للرؤية) من اخراج استاذه حامد جمعة، ومنتدى القسم الدراما الأسبوعي يعرض (بحيرة البجع).. مكتبة القسم تضج بالكتب والعناوين وبأرشيف صحيفة القسم الحائطية الذي صرنا نهرب مواده الى الملاحق الثقافية بالصحف السيارة..
كانت تلك أيام الرسم والتلوين حرفية الأداء، ومجدي النور ينسج عوالمه الخاصة في التمثيل والكتابة والإخراج من داخل هذه العوالم ومن خارجها، يستضيئ بعوالم (سوق ستة) بالحاج يوسف، ويزهو بشخصيات أولاد الحلة، ومحمد حامد (أمباي) و(كابو) و(صالحين) و(فوكس) و(جلود) تواتروا صحبته، الى قسم الدراما، ليشكلوا معا، جماعة المسرح التجريبي في وقت لاحق. يكون حينها قد رافق ماهر حسن ومنعم شوف وعبدالحكيم عامر وعاطف خيري بمعهد الموسيقى والمسرح، يكون قد اسس (النفير) بجانب عبدالباقي مختار وغدير ميرغني.. إلخ.
هل نسيت القصائد التي كان يهذي بها وتهذي به؟، هل نسيت الغناء؟، هل نسيت (مستورة) و(جدادة آمنة) لصوصل ويحيى فضل الله؟، هل نسيت سيرة أعماله الجديدة وتجاربه في الإخراج التلفزيوني؟، هل نسيت (النفاج) فيلمه الخاص عن الشاعر محجوب شريف..؟!!
ليس ثمة نسيان يا صديقي يا (عظمة).. إنما لن يفي الحبر أبدا، لن تفي الكتابة.
رسالة بعد الرحيل:
(طريتك في عيون الناس لما لقيتا محتارا
وفي دروبا مشيتا معاك وراك فترني مشوارا)**
هل أذهب اليوم عصرا إلى المسرح القومي أمدرمان، أم أذهب إلى الحاج يوسف- شارع واحد- محطة الحاج موسى، إلى ذلك البيت الدافئ الكريم الذي طالما استضافنا وجنون أيام (شبابنا الأول) في مناسبات مختلفة وأحيانا بلا مناسبة، أم أذهب إلى كلية الموسيقى والدراما- المعهد العالي للموسيقى والدراما سابقا، أم أعرِّج إلى قصر الشباب والأطفال- تعلم أن مسرحه لم يعد مسرحا وتعلم أيضا أن الكافتريا التي شهدت جوعنا وشغبنا، حواراتنا ومعاركنا الصغيرة لم تعد كذلك منذ زمن طويل، أم أجلس صحبتك كيفما وأينما اتفق متأملا كيف مضيت عنَّا- خطفة برق، وبقينا هنا نتعجب أن لقيناك حقا ومضينا معا لبعض دروبنا في حياة (لا تقدَّر بثمن؟!)؛ يحيرني هذا اليوم، كل عام، إثر رحيلك يا صديقي ويا أخي، ولا أقدر غير أن أكتب لك، بينما لا أعرف ماذا يحصل هناك مع صوصل- أنت تعرف طريقته في الحياة وفي الحب وفي الصداقة، لا أعرف ماذا يحصل هناك أيضا مع عاطف خيري أو مع حافظ خير، أنت تعرف أن الأول لا يزال باستراليا، وربما تكون قد عرفت أن الثاني قد انتقل للعيش في امريكا بدلا عن بريطانيا؛ يحيى فضل الله عاد إلى الخرطوم أخيرا وبالبضبط فعل ذلك مساء 27مارس من هذا العام، تفاجأ به الجمهور وهو على خشبة المسرح- مسرح الفنون الشعبية بأمدرمان، وهو يقدم مسرحية (مأساة يرول) للجمهور، نعم (مأساة يرول) نفسها،  (كوتو) قدمتها من جديد بذات الرؤية الإخراجية لـ (السماني لوال)- نعم ما زال هناك في كندا، ويحيى الذي لم يعلن عن حضوره أحد، قال لي أنه حضر ليعيش ويعمل في السودان وأنه سيذهب ليمضي إجازته في كندا، ليقلب بفعلته هذه نظرية المهجر، وهو لا يزال في الخرطوم وأمدرمان على وجه الخصوص..
لا أعرف بالضبط ماذا سأعمل اليوم، أين سأذهب، ليست لدي رغبة في مهاتفة أحد، لم يهاتفني أحد أيضا من الأصدقاء، أظن أن كلا منا يتعامل مع هذا اليوم بطريقته، بإعتباره يوما خاصا به- بي- بهم..إلخ، وهو يومك فينا، على كل حال، ذلك- هذا اليوم العجيب، يوم رحيلك عنا- أكتب (رحيلك عنا) بمضض وفي القلب غصة، يا له من يوم.
(...) لم يحصل شيء في الحقيقة، لم أبرح مكاني أمام الكمبوتر، وطفقت أكتب لك هذه الرسالة، وحين ظننتي فرغت، كان الوقت قد تأخر على الذهاب إلى إي مكان من الأمكنة التي عرفت صحبتنا، أمكنة كثيرة تلك التي لم أذكرها ضمن الخيارات الممكنة في صدر هذه الرسالة، نحو أن أتنسمها- صحبتنا ودوائر الأصدقاء في تشابكاتها الممتعة، أمكنة ليست سرية بالضرورة لكنها بالضرورة خاصة، ذوات معزة أخص.
حديقة خلفية:
 مجدي النور (1997-2006) ولد بمدينة بحري ، كاتب ومخرج مسرحي وتلفزيوني وشاعر، صدر له عن شركة قاف ديوان (فاجأني النهار) 2005م  و(بطاقة المرسى الأخير)- صدر بعد رحيله متضمنا قصائد بالفصحى والعامية، له أعماله مغناة بواسطة مجموعة عقد الجلاد ومجموعة ساورا وعامر الجوهري وآخرين قدم العديد من المسرحيات في مسارح السودان المختفة في العاصمة والولايات، أخرج للتلفزيون السوداني عدد من الافلام والتمثيليات، شارك في تأسيس جماعتي المسرح التجريبي والنفير المسرحية، يعتبر من طلائع ما يمكن أن تطلق عليه مسرح المهمشين.
في حوار أجريته مع الشاعر ومنتج الأفلام السينمائية (حافظ خير)، ونشر العام الماضي، أجاب على سؤال حول تعدد عطائه الإبداعي فهو شاعر وقاص ومسرحي وسينمائي ومترجم: (وأنت تعرف أنني انتمي لظاهرة ثقافية سودانية هي ظاهرة المسرحيين الذين يكتبون الشعر والقصة، أو إن أردت، ظاهرة الشعراء الذين ينتمون للمسرح ويؤلفون الحكايات، ودونك تداعيات يحيى فضل الله الشاعر والمخرج، وأشعار محمد محيي الدين المسرحي، وعاطف خيري الشاعر خريج معهد الموسيقى والمسرح، وغيرهم كثيرون.الراحل مجدي النور أيضا ينتمي لذات (الظاهرة الثقافية السودانية) التي أشار لها حافظ خير وهو أحد رفقاء درب الراحل في قسم الدراما قصر الشباب والأطفال وأماكن ومشاوير أخرى، والراحل أحد تلاميذ يحيى فضل الله وآخرين من جيله.
يقول الراحل مجدي النور عن علاقته بالشعر والحداثة، في حوار أجراه معه (سمير النيل) ونشر بملف (آخر الأسبوع) بصحيفة الخرطوم يوم الخميس 23 يونيو 2005م: (الشعر عندي هو الحديقة الخلفية التي ادخلها بكامل خصوصيتي وباحساسي الحقيقي ، واحاول أن اهتم بالمفردة الشعبية في حوارها مع المفردة الفصيحة ومع اللوحة التي تشكلها الجملة الشعرية او السطر الشعري على الورقة، واذا نظرنا إلى الشعر الصوفي في السودان نجده بدأ خليطاً بين الفصحى والعامية فتبدأ القصيدة موزونة ثم منثورة وتعود إلى الوزن مرة اخرى وحتى القصائد الشعبية القديمة تميل إلى التحرر، كذلك لو قمنا بترجمة قصائد الرطانة – حلفاوي، دينكاوي – تترجم وهي حرة، وانا اعتقد أن المؤثر الحقيقي هو اهتمامي الباكر بالمسرح الشعبي وبالشخصية السودانية وهي تمارس حياتها بالتلقائية والعفوية داخل الهجين الثقافي والعرقي المتنوع .)
ــــــ
* المقال استفادة من كلمات نشرها الكاتب في أوقات مختلفة عن الراحل
** من أغنية معروفة: كلمات عبدالرحمن مكاوي، ألحان عبدالتواب عبدالله، أداء مصطفى سيد أحمد.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق