الأحد، 17 أبريل 2011

الشِّعْرُ في حَضْرَتِه: حضرة الفرح المختلَس

الشاعر- أكثر من شاعر
الشاعر، من هو؟!؛ السؤال الأقدم المتجدد، الأحدَث، الأكثر حداثةً؛ السؤال الذي انشغل النقد والنقاد به تنظيراً وتطبيقاً على النصوص والتجارب؛ على مرِّ الأجيال والحقب، بمختلف اللُّغات والألْسُن؛ السؤال الذي أرهق الشِّعر والشعراء وأُهرق حبر كثير فيه، وعَرَق ودمع وأَرَق؛ مَن هو: البسيط- المعقَّد- المركَّب- المختلف- الرَّائِي- المغنِّي- المنظِّر- المتنبِّي- المستشرف- القديم- المدَّاح- المتَّسق- المتناقض..إلخ؟!.
في الندوة الحوارية التي دُعيت إلى المشاركة فيها، قبل شهر أو يزيد، من الإخوة بـ(نادي الفكر السوداني- اليونسكو)، والتي كانت بعنوان (جدلية الفكر والتاريخ في الشعر السوداني)، والتي شاركت فيها بالفعل صحبة الناقد والصحافي المعروف (مجذوب عيدروس)، كنت أفكر في عدة أشياء، بينما كنت أصغي لمساهمة (عيدروس) وبينما كنت أقدِّم مساهمتي المتواضعة وبينما كنت أصغي إلى مداخلات وأسئلة الحضور من الكُتَّاب والنُّقَّاد، شُغِلْتُ بالسؤال على النحو الذي بدأت به هذه الكلمة التي بين يديك، وعلى نحو: الشاعر كيف يكتب شهادته خارج الشعر، خارج النص الشعري، وإذ ذاك، هل يمكن أن  يُقرأ نصه الشعري من خلال شهادته باعتبارها مفتاحاً؟، ألا يمكن أن يكون شاهد زور على نَصِّه وهو يفكر في نصٍّ آخر يحلم به؟، ألا يمكن أن يكون مضلِّلاً ليعثر على ذاته مجدَّداً في مغامرة أخرى لم يعثر على مفتاحها بعد؟، أيتَّسق الشاعر شاهداً على النصِّ وناصَّاً في ذات الوقت؟، أيحدث دائماً أن يتَّسق الشاعر والنص، كما يحلم القارئ والناقد، هل اتَّسَق الشاعر يوماً؟!.
لا أعرف مؤكداً، لا أقدر أن أجيب على كل هذه الأسئلة أو على بعضها بقدر ما أقدر على طرحها هكذا بينما أفكر، لكن ـ عن نفسي ـ ربما أعرف أنني كنت أكثر من شاعر، في مسيرتي التي ابتدرتها بشكل جدي، منذ عقدين من الزمان ويزيد؛ أكثر من شاعر كتب أكثر من قصيدة لا على وزن أو صيغة (أفضل) بالطبع، شأني شأن شعراء- أكثر من شعراء، آخرين؛ فالمعرفة بالذات وبالآخر، باللغة والإمكانات، والوعي بالحياة وبالمعرفة شيء يتجدد كل يوم، يحدث أن يكتب الشاعر ويمحو بينما هو ذاهب باستمرار ودون عودة، يحدث أن الشاعر يكتب دون خطة أو دفتر ملاحظات، يحدث أنه يكتب دون أن يتَّبع وصايا أو يتمثَّل راية من دون رايات، كما يحدث أنْ يكتب على النحو النقيض أيضاً، وفي (التاريخ)؛ تاريخ الكتابة تجد كل ذلك مثبتاً وضده في آن.
الشاعر- أكثر من شاعر دائماً، كونه يعيش ذاته أكثر من مرة ويكتب، وهو أكثر من شاعر أيضاً، كونه ليس واحداً دائماً، ما دام هناك شعراء آخرون، بعضهم سابق وبعضهم لاحق وبعضهم معاصر، وهو (جدل مستمر في التاريخ والفكر) ومستقل (هل في كل زمان ومكان؟!) ربما، وربما في (مكان وزمان محدَّدين؟!)  أيضاً ربما، فالـ(جدل كينونة) وكذلك (التاريخ والفكر)، إنما تعنيني (كينونة الشعر- أكثر من شعر) أكثر من (كينونة الشاعر- أكثر من شاعر) فهي مرآة أقل شروخاً كما يترآءى لي، وأنسب.
عاطف خيري.. شاعر المغامرة
(في الحضيضِ مَمَالِكُ
أُبّهةٌ شاخصةٌ منذُ شَظَايا
رسائلُ تُفَضُّ بالحِرَاب
عصافيرُ مصفَّدةٌ
لسُوءِ حُسْنِ الطُّيور
أجنحةٌ عَذْبةٌ في الحَضِيض
أَقْعَدَتْهَا القَوارِيرُ لا العِطْر
أَقْعَدَتْها مَقَادِيرُ كالعِطْر
كُلُّهم في عَجَلةٍ من حُزْنِهِم
اسْتَطْرَدُوا في ظلامٍ وخَمِيرَة).
تُرى هل كان الشاعر «عاطف خيري» يعلم حينما كتب قصائده الأولى؛ تلك البسيطة ذات النزوع العالي نحو الغنائية، تلك التي تغنَّى بها بالفعل عدد من مطربي (الطمبور)، أنه على موعد مع تغيير ستنهض به قصائده المقبلة في متن الكتابة العامية ذات النزوع الثقافي على النحو الذي طلعت به قصائد كتابه الأول (سيناريو اليابسة)؛ تلك القصائد التي لن يتسنى لمطرب أن يؤديها مطلقاً، فقط سيتسنى لشاعر وفنان عظيم كـ(مصطفى سيد أحمد ) أن يخرج بها إلى الناس عبر صوته المتفرد وأدائه المعجز.
لم يكن مِن أحد ليتصور أن هناك صوتاً شعرياً قادماً، يمكن أن يشقَّ له طريقاً بين أسماء عاتية في هذا الفضاء (الملتبس)؛ فضاء القصيدة العامية ذات الأسئلة الثقافية المفتوحة والمنفتحة على أسئلة الفلسفي والأسطوري السياسي والاجتماعي، هذا الفضاء الذي تَسَلْطَنَت فيه أسماء مثل: التيجاني سعيد، محجوب شريف، عمر الطيب الدوش، هاشم صديق، محمد الحسن سالم حميد، محمد طه القدال، أزهري محمد على؛ لكن تمكَّن الشاعر عاطف خيري أن يشق لنفسه؛ لجيله، درباً ملوناً بالمغامرة والجرأة والوثوق، فكانت نقلة جدّ مثيرة ومدهشة على أكثر من مستوى.
عاطف خيري لم يكن يعلم أنه على موعد مع المغامرة مرة أخرى، حين كان يكتب في بعض الأحايين نصوصاً أخرى، بغير تلك اللغة الهجين أو العامية التي درج على كتابة قصائده بها، حين كان يستجيب إلى نداءات الكتابة في المستوى الآخر من اللغة، ولكنه وجد نفسه هناك أيضاً فكان (كتاب الظنون )الذي يُعتبر نقلة أخرى من مستوى معين في الكتابة إلى مستوى آخر، مقارباً فُتُونَ الكتابة في أقصى تجلياتها الشعرية، وقد أربكت هذه النقلة قراء شعره ومحبيه الكثيرين، وربما لا يزال بعض معجبيه مرتبكاً إزاءها.
لكن الشاعر مضى في المغامرة إلى آخر الشوط.. عبر كتابه الأخير (تشجيع القرويات) الصادر في 2006م، سالكاً ذات المتاهات التي لا تفضي إلا الى لذة التجريب في فضاءات الشعر والحياة معاً، الحياة التي لم تعد قدراً هيناً، كما كانت في مدارجها الأولى، والشعر الذي لم يعد طيعاً كما كان في مقتبل الكلمة.
صمتٌ باهر: الشاعر (تيراب الشريف)
(محترقاً أُبْحِرُ في اللَّهبِ/ ممتلئاً بالوهج القديمْ/ جسدي سنبلةُ الغضبِ)
قليلٌ مَن يعرف الشاعر تيراب الشريف؛ صاحب (نداء المسافة) ديوانه الأول والأخير الصادر عن دار النشر جامعة الخرطوم في العام 1972م، قبل عام بالضَّبط من صدور (العودة إلى سنار) كراسة عبدالحي الشهيرة التي صدرت في طبعتها الأولى عن ذات الناشر في العام 1973م؛ فـ(تيراب الشريف) لم يكتب أحد عن ديوانه مطلقاً بشكل نقدي موثق، وعاش شعره صمتاً باهراً وعزلة إعلامية مجيدة على مدى أكثر من عقد، ولم يتغنَّ مطرب بقصائده كما حدث مع محمد المكي إبراهيم في أكتوبرياته الشهيرة وكما حدث مع علي عبدالقيوم وصلاح أحمد إبراهيم ولن تعثر في شعره المنشور مطلقاً على أي أثر لشعار سياسي في ذلك الزمن الآيديولوجي المؤكَّد الذي أشهر فيه صوته على الناس، وهو لم يحظَ بمكانة أكاديمية في جامعة الخرطوم آنذاك؛ إذ غادر البلاد مهاجراً إثر حصوله على ماجستير الفولكلور من معهد الدراسات الإفريقية والآسيوية عام 1978م، إلى البحرين حيث عمل مترجماً بشركة طيران الخليج وبنك الخليج الدولي، وكان قبلها قد تخرج في كلية الآداب جامعة الخرطوم بمرتبة الشرف عام 1969م، وقد عثرنا على نصوص منشورة باسمه في عدد من مجلة (شعر) البيروتية في خمسينيات القرن المنصرم. وهاجر (تيراب الشريف) إلى الولايات المتحدة الأمريكية في العام 1980م حيث حصل هناك على درجة الماجستير والدكتوراة في الأدب العربي من جامعة (أنديانا) ليعمل بعدها بجامعة (مينسيوتا)  في الفترة ما بين 86 ـ 1987م أستاذا للغة العربية وآدابها.
(يُنْبِئُنِي الدُّخَانُ والرَّمَاد/ عن زمنٍ يَجِيء مثلَ السَّيْل/ عن قَمَرٍ يَفْجَأُنَا/ في الصُّبْحِ قبلَ مَقْدِمِ الإشارة/ يغادرُ الدِّيَارَ/ قبلَ أنْ يُتْحِفَنَا/ بنورِهِ الذي/ يحملُ في طَيَّاتِهِ معالمَ الإشارة).
صدفة سعيدة جمعت الشاعر تيراب الشريف، في مهجر حزين، بعدد مقدر من شعراء وكتاب ومبدعين قذفت بهم سني تسعينيات القرن المنصرم إلى القاهرة، وكان شاعر ودرامي مثخن بجراحات الهوامش الثقافية والسياسية مثل (يحيى فضل الله) يحاول جاهداً أن يمسك بعصب اللحظة الإبداعية السودانية في واقع الشتات المرير، من خلال (المركز السوداني للثقافة والإعلام)، فتمكَّن من الظفر به، حيث نظَّم له ندوة بالمركز، نُشرت حيثياتها كاملة في العدد (الخامس1999م) من (ثقافات سودانية) الكتاب غير الدوري الذي كان يصدر عن المركز في ذلك الوقت، وكان الشاعر (تيراب) وقتها يعمل أستاذاً للأدب العربي الحديث بالجامعة الأمريكية بالقاهرة.
قرأ الشاعر (تيراب) في تلك الأمسية قصائد من ديوانه اليتيم (نداء المسافة) كما قرأ في الجزء الثاني من الندوة قصائد من مخطوطه الشعري الذي لم ير النور حتى الآن (الهزيع الأخير)، وحظي بمناقشته، في تلك الأمسية كل من: إبراهيم سلوم، د.صلاح الزين، يحيى فضل الله؛ مدير الندوة، وأحمد البكري.
في (تداعياته) الشهيرة، كتب يحيى فضل الله، ذات يوم عن الشاعر (تيراب الشريف)، ولم نتشرف بقراءة أي شيء عن تيراب الشريف، عدا ذلك إلى جانب حيثيات الندوة المشار إليها، وتشرفنا بقرءاة نسخة من الطبعة اليتيمة لكتابه اليتيم (نداء المسافة)، ثم قرأنا بعضا من مخطوطه الذي لم ير النور (الهزيع الأخير) بكتاب (ثقافات سودانية):
(ها هو الجُّرْحُ المُدَمَّى/ في حنايا القَصَبةْ/ ينزفُ الآنَ/ وما زال يُغذِّي/ عطشَ الغَرْسَةِ للسُّقْيا/ تهفو الموجةُ للشَّطِّ/ وشوقُ الخطوةِ التَّعْبَى/ لضِفَافِ العَتَبةْ).
تبقَّى أن نشير، الشاعر (تيراب الشريف)، من مواليد كتم بجنوب دارفور، منطقة بني هلبة.
-
المقاطع الشعرية من قصيدة (نداء المسافة)، من ديوان الشاعر الوحيد، ما عدا المقطع الأخير من مخطوطه (الهزيع الأخير).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق